شبّهَ الشاعر السويدي توماس ترانسترومر حياته بالمذنّب، وقد حالفنا الحظ في سنة ٢٠٠٥ أن نشاهد هذا المذنّب وهو ينثر قصائده الضوئية في فضاء دمشق، وكان اللقاء حدثاً شعرياً وثقافياً، فقد جاء الشاعر على كرسيه المدولب برفقة زوجته مونيكا وابنته، ومديرة المعهد الثقافي السويدي هيلين سيكلند، ونزل آنذاك في فندق الشيراتون، وكانت مناسبة الزيارة صدور أعماله الشعرية الكاملة عن دار “بدايات”. ما أزال أذكر ابتسامته ونظرته العميقة، ووجهه المتوهج كرماً وحضوراً. وكان الجو آنذاك رقيقاً يذكر بقصيدة له يلعب فيها الضوء على المشهد الطبيعي الساحر، يومئ إلى الذكريات وهي تنظر إليه في صباح حزيرانيّ من بين الخضرة الكثيفة غير أنها لا يمكن أن تُرى ذلك أنها تندمج في الخلفية كحرباوات لكنها قريبة جداً بحيث "تستطيع أن تسمعها وهي تتنفس" كما يقول في قصيدته "الذكريات تنظر إليَّ"، العنوان نفسه الذي استخدمه لكتاب مذكراته.
اتّصلتُ مع بعض الأصدقاء وتمكنت من حجز صالة في "مكتبة الأسد"، من أجل الأمسية التي كان ضيف الشرف فيها مع توماس ترانسترومر الشاعر أدونيس الذي كتب مقدمة الطبعة العربية لأعمال ترانسترومر الشعرية، والمترجم اللبناني قاسم حمادي الذي ترجمها عن السويدية. تحدثت وقتها مع مسؤولي المكتبة، وسألتهم إن كان من الممكن ترتيب توقيع لكتاب ترانسترومر في ختام الأمسية فطلبوا مني أن أرفع كتاباً إلى وزير الثقافة أطلب فيه ذلك،. رفعتُ الكتاب "عن طريق التسلسل" فجاء الرد "موافق بعد العودة إلى رأي مدير مكتبة الأسد"، الذي رفض ولم يسمح بإقامة التوقيع قائلاً إنه ليس لديهم تقاليد كهذه. واكتفوا بأن سمحوا لي بعرض الكتاب في ردهة الصالة في صندوق زجاجي مقفل بحيث لا يمكن تصفّحه كما لو أنه مرآة تعكس جثة الثقافة. وأنا أنظر إلى الكتاب في قفصه الزجاجي تخيلت أنني أصغي إلى موسيقا توماس ترانسترومر وأقرأ قصيدته التي يقول فيها:
تقول الموسيقا إن الحرية موجودة
وإنّ هناك من لا يدفع الضريبة للإمبراطور.
تمت الأمسية بنجاح والدليل على ذلك كان الحضور الكبير من الجمهور الدمشقي والعربي واهتمام الصحف المحلية والعربية والسويدية بهذا الحدث. وتقرر بعد ذلك نقل النشاط إلى مسرح المدينة في بيروت بدعوة من مديرته آنذاك السيدة نضال الأشقر بالتنسيق مع المعهد الثقافي السويدي حيث تمكنتُ من إقامة التوقيع وعرض الكتاب بكل حرية غير أن نتائج البيع كانت محبطة فقررت عندئذ إهداء الكتاب مجاناً لمن يريد وقد شجعني أدونيس من البداية وطلب مني أن أوزّع الكتاب مجاناً خدمةً للشعر واحتفاء بالشاعر.
وفي اليوم الذي كان ترانسترومر وزوجته وابنته ومديرة المعهد الثقافي السويدي سيذهبون فيه إلى بيروت جاء مدير العلاقات العامة في وزارة الثقافة السورية وقال إن وزير الثقافة يرغب بتوجيه دعوة غداء للشاعر. وافقت مونيكا وترانسترومر ومديرة المعهد وأجّلوا سفرهم إلى بيروت يوماً وحين حان موعد الغداء لم يأت أحد من الداعين ولم يتصل، ولم يعتذر أحد، وحينها قرّرتُ دعوتهم إلى دمشق القديمة، إلى مطعم للمأكولات الشرقية، محاولاً أن أخفّف من غضبهم إلى أن استرخوا وقالوا إنه من الأفضل أن الجلسة تمت بهذه الطريقة بعيداً عن الأجواء الرسمية المملّة.
أعادت هذه التفاصيل إلى ذهني وفاة الشاعر الكبير الذي جمعتْني به وبعائلته علاقة شخصية استمرت فيما بعد. تتولد في ذهني الآن صورة ذلك الوجه المتوهج بالكرم والشعر، وإلى جانبه كانت مونيكا كالملاك الحارس الذي يرافقه ويترجم له بطريقة خاصة ذلك أنه فقد قدرته على النطق بعد الجلطة التي تعرض لها سنة ١٩٩٠ وأدت كذلك إلى شلل دائم في يده اليمنى.
يقوم شعر ترانسترومر على استبصار عميق للواقع، على قراءة تلتقط ما هو مخيف ومقلق وأحياناً يدعو إلى اليأس. غنائيته تتجاوز الجغرافيا، كما أشار النقاد الذين تناولوا شعره، وهذا واضح في نصوصه الشعرية المترجمة إلي العربية التي فيها غرابة غير مألوفة في الشعر الأوربي، كما لو أن شعره المتأثر بالشعر الياباني والشعرالأميركي يستقي من مصادر صوفية غير دينية، ربما دنيوية أو وثنية، من نقطة تقاطع تفاعلي بين الباطن والظاهر، والمدخل يبدأ مما هو أرضي وملموس ومرئي كما لو أن البحيرة نافذة تطل على ما هو أعمق، كما يعبّر في إحدى قصائده. ويرى ترانسترومر أن الاستكشاف الشعري للطبيعة يولّد استبصارات ورؤى حول الهوية والبعد الروحي، وغالباً ما يدخل في حقل ميتافيزيقي، وقيل إنه يؤدي صلاة صامتة للمناظر الطبيعية الجميلة وللألوهة المجسدة فيها، وقد وصف ناقد سويدي قصائده بأنها "صلوات علمانية"، أما ناشره السويدي فقد وصف شعره بأنه "تحليل دائم للغز الهوية الفردية في وجه التنوع المتاهي للعالم".
آمن ترانسترومر بكونية الشعر ولم يؤمن بمفهوم الوطن أو الأمة بالمعنى الضيق، ذلك أن الشعر، في المنظور الترانسترومري، موجّه للإنسان في كل مكان، ويخترق المسبقات والحدود الثقافية، وقد تحدث بعض مترجمي ترانسترومر عن هذه الخاصية في شعره والتي لعبت دوراً كبيراً في نجاح ترجمته إلى اللغات الأخرى.
فالشعر بالنسبة له، كما قال في حوار أُجْري معه، شيء ينبع من الداخل، هو الخدْن الجميل للحلم. وقد تحدث الشاعر الأميركي روبرت بلاي، صديق ترانسترومر ومترجم شعره إلى الإنكليزية، عن قدرة شعر معيّن على السفر إلى ثقافات أخرى ووصوله الحقيقي، وهذا ينطبق على شعر ترانسترومر رغم أنه ينتمي إلى مجتمع رفاه، مجتمع حلّ مشكلة الفقر لكنه، كالمجتمع الأميركي، مجتمع تكنولوجي يلجأ إلى الحلول العلمانية ويمنع الاتصال مع الغنى الداخلي، ويكبح حالات الشوق "العمودية" إلى ما هو باطني ومقدس.
ذكر النقاد موسيقا باخ وفاغنر وفرانز ليست وشعر ريلكه وإليوت كمصادر إلهام لشعر ترانسترومر، غير أن تأملاته في المشهد الطبيعي السويدي، وعلاقته الصوفية بالمكان، وثقافته العلمية الرفيعة وانفتاحه على الثقافات الشرقية وأسفاره الكثيرة في أنحاء العالم والاستكشاف البصري المعرفي المرافق، واهتمامه العلمي بالطبيعة وبالحشرات كان لهم أيضاً تأثير أكبر في تجربته الشعريه، وقد بدأ تأليف الشعر في أشكال صارمة لكن رؤيته اتسعت فيما بعد ومزج في قصائده بين السريالية والتصويرية والرمزية كاشفاً عن صور العالم الباطني الكامن خلف عالم الحواس، وداعياً إلى ثورة في اللغة تطهّرها من الأكاذيب، وكان يعدُّ هذا من الضرورات الأخلاقية للشعر.
في كتاب مذكراته "الذكريات تنظر إليّ"، الصادر باللغة الإنكليزية بترجمة للشاعر الأميركي روبن فلتون (نيو ديركشن، ٢٠١١) يقول توماس ترانسترومر إنه حين يفكر بحياته يرى أمامه خيطاً من الضوء، ولدى الفحص الدقيق يرى مذنّباً، الجزء الأكثر تألقاً فيه هو الرأس، الطفولة والنمو، نواته، الجزء الأكثر كثافة فيه، هي الطفولة، التي تُحَدَّد فيها السمات الأكثر أهمية في حياتنا، حاول أن يتذكّر، حاول أن يخترق تلك الكثافة لكن من الصعب التحرك في هذه المناطق المركّزة، إنها خطيرة، جعلته يشعر كما لو أنه يقترب من الموت.
في قصيدته "بعد الموت" يقول ترانسترومر "إنه لجميل سماع القلب وهو ينبض لكن الظلَّ حقيقيٌّ أكثر من الجسد"، غير أن النبض نسمعه عبر قراءة الشعر في ما يحاول النص أن ينقله من الأعماق التي لا يتوقف الشعر عن نبشها، ذلك أن القصائد كما يعرّفها ترانسترومر أفعال تأمل إيقاظيّة، توقظ القارئ، لا تهدهده كي ينام.